
في خضمّ الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد، تبرز من وقت لآخر أحداثٌ تذكرنا بأن بعض مكونات المجتمع السوري ما زالت تدفع ثمن مواقفها واستقلالها عن معادلات المحاور والصراعات، ومن أبرز تلك المكونات، طائفة الموحدين الدروز ، التي كانت، وما تزال، رقماً صعباً في المعادلة الوطنية رغم محاولات التهميش والتضييق.
الاعتداءات على قرى جبل الشيخ: إلى متى؟
منذ فترة ، تشهد قرى جبل الشيخ، التي تقطنها غالبية درزية، اعتداءات متكررة، بعضها مباشر بالسلاح، وبعضها الآخر عبر التضييق الاقتصادي وفرض الحصار وشيوع الفوضى. هذا الاستهداف الممنهج يبدو في كثير من الأحيان أنه رسالة سياسية، لا مجرد أعمال عنف عشوائية. ان قرى مثل “مجدل شمس”، “حضر”، و”بقعاتا” ليست مجرد مواقع جغرافية، بل تمثل رمزاً للثبات والتمسك بالهوية الوطنية في وجه الضغوط الإسرائيلية من جهة، ومحاولات إخضاعها من جهات داخلية أو موالية لمحاور إقليمية من جهة أخرى.
إن الموحدين الدروز، كما عهدناهم، لم يكونوا يوماً دعاة انفصال أو تمرّد، بل ساعين للاستقرار ورافضين لأي شكل من أشكال الاحتلال أو الارتهان. فهل يُكافأ هذا الموقف النبيل بالقصف والاعتقال والحصار؟
“التطبيع” ليس خيار الشعب السوري
المفارقة المؤلمة أن الاعتداءات على هذه المناطق تتزامن مع تسريبات وتقارير إعلامية حول انفتاح بعض الدوائر الرسمية في سوريا على فكرة “التطبيع مع إسرائيل”، أو على الأقل، التعامل معها بشكل غير مباشر في سياق ترتيب التوازنات في الجنوب.
إننا نشهد تحولاً في الخطاب السياسي الرسمي، حيث بات الحديث عن “السلام مقابل السيادة” أو “التنسيق الأمني” مع إسرائيل أموراً مطروحة في الكواليس، في حين يُعاقب من يرفض التطبيع ويتمسك بأرضه وهويته. هذه الازدواجية ليست فقط خرقاً للثوابت الوطنية التي تمّ تسويقها لسنوات، بل طعنة في ظهر مكوّنات رفضت الانصياع لمشاريع الهيمنة الإسرائيلية، وفي مقدمتها دروز جبل الشيخ.
تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ: واقع مفروض أم قرار ضمني؟
من الشمال الشرقي حيث السيطرة الكردية بدعم أمريكي، إلى الشمال الغربي حيث النفوذ التركي، وصولاً إلى الجنوب حيث تتقاسم روسيا وإيران وإسرائيل مناطق السيطرة الأمنية، يبدو أن سوريا تُعاد هيكلتها على أساس مناطق نفوذ، وليس دولة مركزية ذات سيادة.
هذا الوضع الشاذ لا يمكن تبريره باستمرار الحرب أو “ضرورات المرحلة الانتقالية”، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات فاشلة وتنازلات مريبة. المؤسف أن من يدفع الثمن هم أولئك الذين رفضوا أن يكونوا أدوات في مشاريع خارجية، وتمسكوا بسوريتهم.
الكرامة ليست ورقة تفاوض
الدروز في سوريا، مثلهم مثل كل السوريين الشرفاء، لا يطلبون امتيازات خاصة، بل فقط حقهم في العيش بكرامة وأمان في وطنٍ يضمن لهم الحرية والمساواة. من الخطأ القاتل أن يُفهم تمسكهم بالسلم الأهلي ورفضهم لحمل السلاح ضد الدولة بأنه ضعف. ومن الجريمة أن يُستباح دمهم وأرضهم لأنهم لا يهرولون خلف المحاور، ولا ينحنون لرياح الصفقات.
لقد آن الأوان لأن يُسمع صوت العقلاء في هذا البلد، وألا يُترك من تبقى مخلصاً للوطن عرضةً للنسيان أو التصفية السياسية أو الجغرافية.
إن ما يحدث في جبل الشيخ ليس حدثاً محلياً عابراً، بل مؤشر على خلل عميق في البوصلة الوطنية. وعلى كل من يحرص فعلاً على وحدة سوريا وسيادتها أن يُدرك أن استهداف الموحدين الدروز أو تهميشهم لن يمرّ دون أثر. فهم ليسوا “مكسر عصا”، بل شركاء في القرار والمصير، وأي مشروع لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار، مصيره السقوط.